بحر الذكرى
شرفة منزلنا قريبة من الشاطئ، فلا تكاد تومئ برأسك حتى يلفعك نسيم البحر العليل، وغرفتي التي بجانب الشرفة تجعل منظر الأصيل حيث تغرب الشمس في البحر منظرا أحرص أشد الحرص على متابعته. أقنعت نفسي بهذه الفكرة، لكن أبي عبثا كان يشرح لي اختفاء الشمس، ولأن الشمس كبيرة تضيء منزلنا في تطوان، وتضيء مكان الاصطياف والمدرسة وأي مكان أذهب إليه، فلابد أن البحر كبير مثل السماء.
أقف مشدوها أحملق في هذه الزرقة المشتعلة، وكأنني أنتظر أجوبة تؤكد رؤيتي وتدحض فكرة أبي. استمرت علاقتي بالبحر تنمو..وتكبر حتى أصبحت أعتلي موجه. أبي عبثا ينصحني بأخذ الحيطة والحذر. لكن البحر يخرج ما لا ينتمي إلى صلبه قلت لنفسي، وتمنيت لو يفهم أبي الأمر، فالبحر لا يمكن أن يقبل بي ضيفا في أغواره. أكيد أنه يرمي كل ما يشوه بهاءه؛ إذ تلفت نظراتي كل صباح تلك الأشياء الغريبة من أحذية ممزقة وبقايا قنينات ومواد خشبية ترسو على حافة الشاطئ. إنه البحر، وحده يعين من ينتمي إليه، وكم منيت نفسي أن يحتضنني يوما إلى الأبد. كبرت مرة ثالثة، أبي رحل..وظلت أمي وفية لذكراها، حيث نصيف كل سنة في المكان المعهود..وظل البحر موحشا يذكرني بنصائح الوالد التي لم تتخلص منها ذاكرتي رغم صغرها، هنا كان أبي يجلس يصطاد أبي في هذا المكان، وهناك تحت المظلة استراح إلى الأبد.